قلنا: إنّ سورة «البقرة» تـتضمّن عمارتها جملة محاور أو موضوعات تحوم السورة عليها ، منها: الموضوع الذي يتحدّث عن الاسرائيليين ، و منها: المحور الذي يتحدّث عن الإماتة و الإحياء.
و ممّا لا شك فيه ، أنّ كلّ قصة ترد عن هذا الموضوع أو ذلك المحور إنّما تجيء في سياق خاص يرتبط بطبيعة البناء الهندسي للسورة من حيث انتظام القصص و سائر الموضوعات فيها ، ممّا لا يدخل في نطاق حديثنا عن قصص القرآن ، بل يدخل في نطاق التفسير البنائي للقرآن الكريم فيما يستطيع المتلقّي أن يقف على بناء القصص في السورة المذكورة و مواقعها الهندسية من عمارة السورة.
أمّا الآن فنتحدّث عن مجموعة قصص أوحكايات تتناول المحور الذي أشرنا إليه وهو ظاهرة الإماته و الإحياء ، حيث لاحظنا سابقاً قصة البقرة التي حامت على الموضوع المذكور ، و نلاحظ الآن قصصاً جديدة عن الموضوع ، و هي ثلاث حكايات أو قصص تتماثل فيما بينها من حيث المحور الذي تحوم عليه ، أي ظاهرة الإماتة و الإحياء ، و لكن وفق مستويات متنوّعة.
القصة أو الحكاية الاُولى التي سنتحدّث عنها لاحقاً هي قصة إبراهيم (عليه السلام).
تتحدّث هذه القصة عن إبراهيم (عليه السلام) و موقفه من طاغية عصره نمرود في قضية الإحياء و الإماتة ، من قِبَلِ اللّه عزّ و جلّ.
و الحكاية الثانية ، عن إحدى شخصيات الماضين ، فيما مرّت ذات يوم على قرية خاوية فتساءلت مستفهمةً:
﴿أَنـّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عام ثُمَّ بَعَثَهُ﴾
و أمّا الحكاية الثالثة ، فتتناول قضية إبراهيم (عليه السلام) في تقطيعه للطيور الأربعة ، ثمّ عودة الحياة إلى الطيور المذكورة.
و من الواضح ، أنّ هذه الأقاصيص الثلاث تحوم بأكملها على قضية واحدة هي الإماتةُ و الإحياءُ ، أيّ إماتة اللّه عزّ و جلّ كلَّ شيء و إحياءه من جديد.
و مع أنّ هذه الحكايات الثلاث تحوم على ظاهرة واحدة ، إلاّ أنـّها في الآن ذاته تتناول الإماتة و الإحياء من جوانب متعددة ، بحيث تُعالج كلُّ اُقصوصة جانباً خاصاً من الظاهرة.
كما أنّ الشخصيات الثلاث التي أبرزتهم القصصُ في هذا النطاق ، يشكّلون مستويات مختلفةً ، فأحدُهم إبراهيم (عليه السلام) ، و هو شخصيّة فذّة متميّزة بسمات خاصة لا تتوفّر عند سواه ، و يكفي أ نّه خليل اللّه ، و أنـّه صاحب الحنيفيّة السمحاء.
و أما الشخصية الثانية فهي إرميا ، أو عُزَير أو سواهما من شخصيات النبوّة.
و الشخصيّة الثالثة هي نمرود ، و هي شخصيةٌ كافرة ، متهرئة بَلهاء.
إنّ هذه الشخصيات الثلاث بالرغم من التفاوت فيما بينها تتعرّض لتجربة الإحياء و الإماتة في ظواهر مختلفة ذات صلة بالبشر ، و بالحيوانات ، و سواها.
و المهمّ ، أنّ كلاّ من ظاهرة الإماتة و الإحياء ، ثمّ الشخوص الذين تعاملوا فكريّاً مع الظاهرة المذكورة ، ... أنّ كلاّ منهما يخضع لِوحدة تجمع الأقاصيصُ بين خطوطها ، و يخضع لِفوارق تفصل الأقاصيص بينها في الآن ذاته.
و هذا واحدٌ من أسرار الفنّ العظيم.
* * *
إنّ الأهميّة الفنّية لهذه الأقاصيص أو الحكايات الثلاث ، تتمثّل في إمكان عدّها جميعاً قصةً واحدة ، ما دامت تتناول قضية واحدةً ، هي أنّ اللّه قادرٌ على إماتةِ كلّ شيء و إحيائه من جديد.
كما يمكن عدّ كلّ واحدة منها اُقصوصةً مستقلة ، ما دامت ذات شخوص و مواقف و أحداث ، كلّ واحد منها منفصلٌ عن الآخر.
و مجرّد كون هذه الأقاصيص ذات سمة مزدوجة على نحو ما أوضحناه ، يظلّ أمراً له أهميّته الجمالية العظيمة التي لا يُدرك أسرارها ، إلاّ من أُوتي خبرةً في تذوّق القصص.
و يُمكننا أن نتبيّن هذه الحقائق ، حين نبدأ بمعالجة كلّ اُقصوصة من هذه الأقاصيص على حِدَة ، على أن نحاول ـ من الآن ذاته ـ أن نصل فيما بينها بعد ذلك.
و نقف أولا عند حكاية ابراهيم(عليه السلام) مع طاغية عصره نمرود حسب تسلسلها
القصصي الذي ورد في النص القرآني الكريم.
يقول النص القصصي:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللّهُ الْمُلْكَ﴾
﴿إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ﴾
﴿قالَ: أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ﴾
﴿قالَ إِبْراهِيمَ: فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ﴾
﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ﴾
إنّ هذه الآية القرآنية الواحدة تحفل بعنصر قصصي ثرّ ، بالرغم من قصر الحكاية التي أوردتها.
إنّها أوّلا ذات شخوص يتطلّبها شكل الاُقصوصة أو الحكاية متمثّلةً في
شخصيتي إبراهيم (عليه السلام) و نمرود.
كما أنـّها ذات موقف يتطلّبها الشكلُ القصصي المذكور متمثّلا في مناقشة أو محاجّة بين إبراهيم (عليه السلام) و نمرود حيال ظاهرة كونية خطرة هي الإماتة و الإحياء.
كما أنـّها ثالثاً ، تشكّل مدخلا إلى اُقصوصتين بعدها ، تتنالان نفس ظاهرة الإحياء و الإماتة ، و لكن عبْر عمليتين تطبيقيّتين ، تلقيان الإنارة بنحو مفصّل على الظاهرة المذكورة.
و لنحاول إذن الوقوف مفصّلا عند هذه الحكاية أو الاُقصوصة.
النصوص المفسّرة تتفاوت في تحديد البيئة النفسية التي حملت كلاّ من إبراهيم (عليه السلام)و نمرود على هذه المناقشة ، فبعضها يذهب إلى أنّ المناقشة بينهما جرت عند إلقاء إبراهيم (عليه السلام) في النار التي أعدّها نمرود لإحراق إبراهيم ، و بعضها يذهب إلى أنّ المناقشة بينهما تمّت عند كسر إبراهيم للأصنام.
تقول الرواية الاُولى: لمّا ألقى نمرودُ إبراهيمَ في النار ، و جعلها اللّه عليه برداً و سلاماً ، قال نمرود: يا إبراهيم مَن ربّك؟ قال: الذي يُحيي و يُميت.
قال له نمرود: أنا اُحيي و اُميت. فقال له إبراهيم: كيف تحيي و تُميت؟
قال: أعمدُ إلى رجلين ممّن قد وجب عليهم القتل ، فأطلق عن واحد و أقتل واحداً ، فأكون قد أحييتُ و أمتُّ. قال إبراهيم: إن كنت صادقاً فاحيي الذي قتلته ، ثمّ قال: دع هذا ، فإنّ ربي يأتي بالشمس من المشرق ، فأتِ بها من المغرب.
فكان كما قال اللّه عزّ و جلّ:
﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾
إنّ هذه الرواية التفسيريّة تُلقي أكثر من إنارة على الموقف. إنّها ـ بعامة ـ تحدّد معنى الصلابة لدى الشخصيات المُجاهدة. فإبراهيم (عليه السلام) و هو يتقدّم إلى المحرقة لا
يعنيه هول النار بقدر ما يعنيه أن يلقي كلمة اللّه إلى الآخرين ، حتى أ نّه يقتحم مناقشةً مع شخصية بلهاء مثل نمرود دون أن تصرفه بلاهةُ نمرود و هولُ النار من الدخول في مُناقشة تتطلّب إلقاء حجر كبير في فم الطاغية الأبله نمرود.
المهمّ ، أنّ إبراهيم ألقى كلمته ، سواء أكان ذلك عند إلقائهم إيّاه في النّار ، أو عند كسره لأصنامهم ، أو عند نطاق بيئيٍّ آخر ... و لهذا السبب سكتت القصّةُ عن تحديد البيئة النفسية للمناقشة ، و اكتفت من الزواية الفنّية بذكر نمط المناقشة بين إبراهيم و نمرود ، دون أن تدخل في التفصيلات.
* * *
إنّ الأهميّة الفكرية و الفنيّة لهذه المناقشة ، تتمثّل في جملة من الحقائق ، منها:
أنّ المتاع الدنيوي من مُلك و نحوه يحتجز كثيراً من الأغنياء عن التفكير السليم في استكناه الحقائق.
لقد قالت القصة عن نمرود أ نّه آتاه اللّه المُلك:
﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللّهُ الْمُلْكَ﴾
و واضح أنّ القصة لم تخلع هذه السمة سمة المُلك على نمرود عبثاً ، بل تستهدف من ذلك ـ فنّياً ـ لفت الانتباه إلى أنّ الغباء و البلاهة و انغلاق الفكر يقف وراء هؤلاء الباحثين عن المتاع الدنيوي ، و قمّته هي المُلك ، أو السيطرة السياسية.
من الممكن أن يبهر السذّجَ من الناس مُلك أو سيطرة على الرقاب ، بحيث يعدّونها قمّةً لما يُسمّى في اللغة النفسية بـ : التقدير الاجتماعي ، يُعدّ المُلكُ قمّة الدافع إلى السيطرة و التفوّق ، لأنـّه تملّكٌ لرقاب الناس بأكملهم.
بيد أنّ التدقيق ـ من خلال هذه الاُقصوصة ـ في عقلية حكّام الأرض الذين لا ينتسبون إلى اللّه ، يدلّنا بوضوح على مدى ما هم عليه من غباء و بلاهة و انغلاق فكر بحيث ينهارون أمام أوّل مناقشة تواجههم ، على نحو ما لاحظناه في مناقشة إبراهيم (عليه السلام) لنمرود في قضية الإحياء و الإماتة.
* * *
نخلص ممّا تقدم بالإضافة إلى الكشف عن التخلّف المعرفي لدى المنحرفين أنّ القصة المذكورة تظل تجسيداً أو مفردة لما كرّرناه من الإشارة إلى أحد محاور السورة ، وهي ظاهرة الإماتة والإحياء حيث جسّدت الاُقصوصة سلوكاً فكرياً لهذا الجانب ، وحيث نواجه بعدها حكاية المارّ على القرية فيما ستجسّد سلوكاً عملياً أو مادياً لظاهرة الإماتة والإحياء على نحوما نبدأ به الآن