• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة البقرة : قصة أو حكاية إبراهيم(عليه السلام) مع طاغية عصره

 قلنا: إنّ سورة «البقرة» تـتضمّن عمارتها جملة محاور أو موضوعات تحوم السورة عليها ، منها: الموضوع الذي يتحدّث عن الاسرائيليين ، و منها: المحور الذي يتحدّث عن الإماتة و الإحياء.

و ممّا لا شك فيه ، أنّ كلّ قصة ترد عن هذا الموضوع أو ذلك المحور إنّما تجيء في سياق خاص يرتبط بطبيعة البناء الهندسي للسورة من حيث انتظام القصص و سائر الموضوعات فيها ، ممّا لا يدخل في نطاق حديثنا عن قصص القرآن ، بل يدخل في نطاق التفسير البنائي للقرآن الكريم فيما يستطيع المتلقّي أن يقف على بناء القصص في السورة المذكورة و مواقعها الهندسية من عمارة السورة.

أمّا الآن فنتحدّث عن مجموعة قصص أوحكايات تتناول المحور الذي أشرنا إليه وهو ظاهرة الإماته و الإحياء ، حيث لاحظنا سابقاً قصة البقرة التي حامت على الموضوع المذكور ، و نلاحظ الآن قصصاً جديدة عن الموضوع ، و هي ثلاث حكايات أو قصص تتماثل فيما بينها من حيث المحور الذي تحوم عليه ، أي ظاهرة الإماتة و الإحياء ، و لكن وفق مستويات متنوّعة.

القصة أو الحكاية الاُولى التي سنتحدّث عنها لاحقاً هي قصة إبراهيم (عليه السلام).

تتحدّث هذه القصة عن إبراهيم (عليه السلام) و موقفه من طاغية عصره نمرود في قضية الإحياء و الإماتة ، من قِبَلِ اللّه عزّ و جلّ.

و الحكاية الثانية ، عن إحدى شخصيات الماضين ، فيما مرّت ذات يوم على قرية خاوية فتساءلت مستفهمةً:

﴿أَنـّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عام ثُمَّ بَعَثَهُ

و أمّا الحكاية الثالثة ، فتتناول قضية إبراهيم (عليه السلام) في تقطيعه للطيور الأربعة ، ثمّ عودة الحياة إلى الطيور المذكورة.

و من الواضح ، أنّ هذه الأقاصيص الثلاث تحوم بأكملها على قضية واحدة هي الإماتةُ و الإحياءُ ، أيّ إماتة اللّه عزّ و جلّ كلَّ شيء و إحياءه من جديد.

و مع أنّ هذه الحكايات الثلاث تحوم على ظاهرة واحدة ، إلاّ أنـّها في الآن ذاته تتناول الإماتة و الإحياء من جوانب متعددة ، بحيث تُعالج كلُّ اُقصوصة جانباً خاصاً من الظاهرة.

كما أنّ الشخصيات الثلاث التي أبرزتهم القصصُ في هذا النطاق ، يشكّلون مستويات مختلفةً ، فأحدُهم إبراهيم (عليه السلام) ، و هو شخصيّة فذّة متميّزة بسمات خاصة لا تتوفّر عند سواه ، و يكفي أ نّه خليل اللّه ، و أنـّه صاحب الحنيفيّة السمحاء.

و أما الشخصية الثانية فهي إرميا ، أو عُزَير أو سواهما من شخصيات النبوّة.

و الشخصيّة الثالثة هي نمرود ، و هي شخصيةٌ كافرة ، متهرئة بَلهاء.

إنّ هذه الشخصيات الثلاث بالرغم من التفاوت فيما بينها تتعرّض لتجربة الإحياء و الإماتة في ظواهر مختلفة ذات صلة بالبشر ، و بالحيوانات ، و سواها.

و المهمّ ، أنّ كلاّ من ظاهرة الإماتة و الإحياء ، ثمّ الشخوص الذين تعاملوا فكريّاً مع الظاهرة المذكورة ، ... أنّ كلاّ منهما يخضع لِوحدة تجمع الأقاصيصُ بين خطوطها ، و يخضع لِفوارق تفصل الأقاصيص بينها في الآن ذاته.

و هذا واحدٌ من أسرار الفنّ العظيم.

* * *

إنّ الأهميّة الفنّية لهذه الأقاصيص أو الحكايات الثلاث ، تتمثّل في إمكان عدّها جميعاً قصةً واحدة ، ما دامت تتناول قضية واحدةً ، هي أنّ اللّه قادرٌ على إماتةِ كلّ شيء و إحيائه من جديد.

كما يمكن عدّ كلّ واحدة منها اُقصوصةً مستقلة ، ما دامت ذات شخوص و مواقف و أحداث ، كلّ واحد منها منفصلٌ عن الآخر.

و مجرّد كون هذه الأقاصيص ذات سمة مزدوجة على نحو ما أوضحناه ، يظلّ أمراً له أهميّته الجمالية العظيمة التي لا يُدرك أسرارها ، إلاّ من أُوتي خبرةً في تذوّق القصص.

و يُمكننا أن نتبيّن هذه الحقائق ، حين نبدأ بمعالجة كلّ اُقصوصة من هذه الأقاصيص على حِدَة ، على أن نحاول ـ من الآن ذاته ـ أن نصل فيما بينها بعد ذلك.

و نقف أولا عند حكاية ابراهيم(عليه السلام) مع طاغية عصره نمرود حسب تسلسلها
القصصي الذي ورد في النص القرآني الكريم.

يقول النص القصصي:

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللّهُ الْمُلْكَ

﴿إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ

﴿قالَ: أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ

﴿قالَ إِبْراهِيمَ: فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ

﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ

إنّ هذه الآية القرآنية الواحدة تحفل بعنصر قصصي ثرّ ، بالرغم من قصر الحكاية التي أوردتها.

إنّها أوّلا ذات شخوص يتطلّبها شكل الاُقصوصة أو الحكاية متمثّلةً في
شخصيتي إبراهيم (عليه السلام) و نمرود.

كما أنـّها ذات موقف يتطلّبها الشكلُ القصصي المذكور متمثّلا في مناقشة أو محاجّة بين إبراهيم (عليه السلام) و نمرود حيال ظاهرة كونية خطرة هي الإماتة و الإحياء.

كما أنـّها ثالثاً ، تشكّل مدخلا إلى اُقصوصتين بعدها ، تتنالان نفس ظاهرة الإحياء و الإماتة ، و لكن عبْر عمليتين تطبيقيّتين ، تلقيان الإنارة بنحو مفصّل على الظاهرة المذكورة.

و لنحاول إذن الوقوف مفصّلا عند هذه الحكاية أو الاُقصوصة.

النصوص المفسّرة تتفاوت في تحديد البيئة النفسية التي حملت كلاّ من إبراهيم (عليه السلام)و نمرود على هذه المناقشة ، فبعضها يذهب إلى أنّ المناقشة بينهما جرت عند إلقاء إبراهيم (عليه السلام) في النار التي أعدّها نمرود لإحراق إبراهيم ، و بعضها يذهب إلى أنّ المناقشة بينهما تمّت عند كسر إبراهيم للأصنام.

تقول الرواية الاُولى: لمّا ألقى نمرودُ إبراهيمَ في النار ، و جعلها اللّه عليه برداً و سلاماً ، قال نمرود: يا إبراهيم مَن ربّك؟ قال: الذي يُحيي و يُميت.

قال له نمرود: أنا اُحيي و اُميت. فقال له إبراهيم: كيف تحيي و تُميت؟

قال: أعمدُ إلى رجلين ممّن قد وجب عليهم القتل ، فأطلق عن واحد و أقتل واحداً ، فأكون قد أحييتُ و أمتُّ. قال إبراهيم: إن كنت صادقاً فاحيي الذي قتلته ، ثمّ قال: دع هذا ، فإنّ ربي يأتي بالشمس من المشرق ، فأتِ بها من المغرب.

فكان كما قال اللّه عزّ و جلّ:

﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ

إنّ هذه الرواية التفسيريّة تُلقي أكثر من إنارة على الموقف. إنّها ـ بعامة ـ تحدّد معنى الصلابة لدى الشخصيات المُجاهدة. فإبراهيم (عليه السلام) و هو يتقدّم إلى المحرقة لا
يعنيه هول النار بقدر ما يعنيه أن يلقي كلمة اللّه إلى الآخرين ، حتى أ نّه يقتحم مناقشةً مع شخصية بلهاء مثل نمرود دون أن تصرفه بلاهةُ نمرود و هولُ النار من الدخول في مُناقشة تتطلّب إلقاء حجر كبير في فم الطاغية الأبله نمرود.

المهمّ ، أنّ إبراهيم ألقى كلمته ، سواء أكان ذلك عند إلقائهم إيّاه في النّار ، أو عند كسره لأصنامهم ، أو عند نطاق بيئيٍّ آخر ... و لهذا السبب سكتت القصّةُ عن تحديد البيئة النفسية للمناقشة ، و اكتفت من الزواية الفنّية بذكر نمط المناقشة بين إبراهيم و نمرود ، دون أن تدخل في التفصيلات.

* * *

إنّ الأهميّة الفكرية و الفنيّة لهذه المناقشة ، تتمثّل في جملة من الحقائق ، منها:
أنّ المتاع الدنيوي من مُلك و نحوه يحتجز كثيراً من الأغنياء عن التفكير السليم في استكناه الحقائق.

لقد قالت القصة عن نمرود أ نّه آتاه اللّه المُلك:

﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللّهُ الْمُلْكَ

و واضح أنّ القصة لم تخلع هذه السمة سمة المُلك على نمرود عبثاً ، بل تستهدف من ذلك ـ فنّياً ـ لفت الانتباه إلى أنّ الغباء و البلاهة و انغلاق الفكر يقف وراء هؤلاء الباحثين عن المتاع الدنيوي ، و قمّته هي المُلك ، أو السيطرة السياسية.

من الممكن أن يبهر السذّجَ من الناس مُلك أو سيطرة على الرقاب ، بحيث يعدّونها قمّةً لما يُسمّى في اللغة النفسية بـ : التقدير الاجتماعي ، يُعدّ المُلكُ قمّة الدافع إلى السيطرة و التفوّق ، لأنـّه تملّكٌ لرقاب الناس بأكملهم.

بيد أنّ التدقيق ـ من خلال هذه الاُقصوصة ـ في عقلية حكّام الأرض الذين لا ينتسبون إلى اللّه ، يدلّنا بوضوح على مدى ما هم عليه من غباء و بلاهة و انغلاق فكر بحيث ينهارون أمام أوّل مناقشة تواجههم ، على نحو ما لاحظناه في مناقشة إبراهيم (عليه السلام) لنمرود في قضية الإحياء و الإماتة.

* * *

نخلص ممّا تقدم بالإضافة إلى الكشف عن التخلّف المعرفي لدى المنحرفين أنّ القصة المذكورة تظل تجسيداً أو مفردة لما كرّرناه من الإشارة إلى أحد محاور السورة ، وهي ظاهرة الإماتة والإحياء حيث جسّدت الاُقصوصة سلوكاً فكرياً لهذا الجانب ، وحيث نواجه بعدها حكاية المارّ على القرية فيما ستجسّد سلوكاً عملياً أو مادياً لظاهرة الإماتة والإحياء على نحوما نبدأ به الآن


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page